التسامح والسلام

كتابة: اية ابراهيم - آخر تحديث: 16 فبراير 2024
التسامح والسلام

إن الحديث عن التسامح والدعوة إلى إقرار مبادئه وإشاعة قيمه وأخلاقياته ليس حديثا عن قيمه واحدة مجردة نبحث في تحقيقها بذاتها ولذاتها قدر ما هو حديث عن ثقافة متكاملة تنطوي على العديد من الأبعاد التي تستهدف التغيير في القناعات في محاولة الكشف عن المضامين الإنسانية في مفهوم التسامح والعفو والتفاهم من اجل السلام . إن البحث عن المشترك الثقافي هو المدخل لشراكه آمنة لبناء حضارة الإنسان، والوعى بهذا كله يعد بمثابة تمهيد لترسيخ ودعم قيم التسامح . إنه الفهم الجيد لتأصيل لغة الحوار المشترك حول قيم التعاون والسلام ، وبموجب هذا المشترك الإنساني تستطيع الأمم والمجتمعات بناء عالم أكثر أمنا وعدالة ، ويهئ فرصا جيدة لحوار الثقافات من أجل بناء مستقبل الحضارة البشرية .
إن مبدأ التسامح يتطلب من الناس أن يتعايشوا فى سلام مع من يحملون معتقدات وقيم مغايرة . والتسامح له وجه أخر ( كما يشير إليه السياق الغربي الأوروبي ) ، وهو يعنى ” تفوق القيم المحايدة & المشترك الحضاري والإنساني ” ، وذلك بما يعنى تأكيد المعاني والقيم المرتبطة بـ ” الاستقلال ، العقلانية ، الإنسانية ” .
إن مسار العولمة وحركة التطور العالمي المصاحبة لها ، يقتضي اعتبار التنوع الثقافي والتعدد الحضاري دافعا ايجابيا للتفاعل والتبادل لا عائقا دونهما ، في إطار الخصوصيات الثقافية والحضارية واحترامها ، وفى ظل عالم تحول إلى قرية كونية بفضل الثورة المعلوماتية والاتصالية وأصبح ينحو نحو التجانس ، وأن قيم التعددية والتنوع الثقافي لا تمثل ذريعة لاستبعاد الآخر ، بل من الواجب استغلال ما تتيحه العولمة من فرص ، وما تنطوي عليه من إمكانات لمزيد دعم التضامن والتعاون والعيش المشترك بين الشعوب.
ويتعزز اليوم أكثر من أي وقت مضى ، شعور بضرورة دفع الحوار بين الشعوب والثقافات نحو تحقيق الأهداف الإنسانية ، فلا يمكن تصور أي تعاون بناء أو أي حوار حقيقي بين الحضارات والثقافات فى عالم يتغير باستمرار دون الإقرار بمبدأ التنوع الثقافي . ومن ثمة فلا بديل عن التربية على الحوار واحترام التنوع الثقافي وصونه باعتباره سبيلا بين بنى البشر ، والتأسيس لمستقبل مشترك أكثر اطمئنانا وتضامناً.

وانطلاقا مما سبق كله كانت أهمية الحوار مع الناشئين والشباب من أبناء مجتمعنا حول ” ثقافة التسامح والسلام ومبادئها “، وذلك فى محاولة لتنمية الوعى بالأسس الداعمة للحوار وتعظيم الفرص المتاحة والممكنة لبناء مستقبل آمن لعالم الإنسان

أولاً: قيم التسامح الديني

1) قيمة التسامح في كونه ضرورة وجودية:
إن ما يجب تسليط الضوء عليه هو أن أهمية التسامح الديني تتمثّل في كونه ذا بُعد وُجودي، أي أنه ضروري ضرورة الوجود نفسه. ولتوضيح ذلك يمكن الإشارة إلى أن سُنّة الوجود قد اقتضت أن يكون وجود الناس على الأرض في شكل تجمّعات بشرية، وهي وإن اتّفقت في ما يجمع بينها من وحدة الأصل والحاجة إلى التجمّع والحرص على البقاء والرغبة في التّمكّن من مقوّمات الحياة والسّعي في إقامة التمدّن والعمران والرغبة في التقدّم فإنها قد تباينت في ما تتفرّد به كل مجموعة من خصوصية عرقية ودينية وبيئية وثقافية. وقد صرّح القرآن بهذه الحقيقة الوجودية فقال: { يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا }(1).
لقد أكدت الآية ما كان قد توصَّل إليه الحكماء والفلاسفة من قَبل وأثبته الواقع التاريخي المُشَاهد من أن الإنسان مَدني بطبعه، بمعنى أنه لا تتحقّق حياته ولا ينبني كيانه ولا تكتمل ذاته ولا يكتسب ما تصبو إليه قدراته إلاّ داخل وسط اجتماعي متشابك فيه الخير والشر، وفيه الحب والبغض ، وفيه التجانس والتنافر، وفيه الأنا والأنا الآخر.
فالإنسان ابن بيئته، فهي التي تنشئه وتكونه وتلونه، وهي التي توفر له ما تملك مما يفي بحاجاته الأساسية، كما أنها هي التي تَكفيه مع ما تقدّس من شعائر وتطبعه بما تقدر من عادات، وهي التي تأقلمه بشكل يجعل ما هو من متعلقات ذاتيته يتناسق مع روحها العامة وينسجم مع ما لديها من غاية مشتركة.
من ذلك، نتبيّن أن التنوّع بين الناس أفراداً وجماعات ليس انحرافاً ولا شذوذاً ، بل نابع من طبيعتهم البشرية ومن أصل خلقتهم الآدمية، فهو ظاهرة ضرورية اقتضتها الفطرة الإنسانية واستلزمتها النشأة الاجتماعية.
إنه تنوّع في الطبائع والأمزجة والمواهب والميول والمؤهلات والطموحات. وإنه تنوّع في أنماط الممارسات العقائدية وتباين في الطقوس والشعائر وتغاير في التجلّيات السلوكية وتمايز في المنطلقات الفكرية. وإنه تنوّع إيجابي فيه ثراء وخصوبة وتزاوج ، يحفّز على الاضطلاع بالمسؤوليات الثّقال، ويدفع إلى جعل الوفاء بالحاجات النفسية والعقلية والوجدانية والاجتماعية والحضارية واقعاً مرئياً وخياراً متاحاً أمام القدرات والكفاءات.
وقد ألمح القرآن الكريم إلى ضرورة هذا الاختلاف ، وإلى حتمية وجوده حتى يتمكّن كل فرد وكل مجتمع من العيش حسب ما لديه من إرادة وحرية واختيار وبالطريقة التي يهواها ويرتضيها { ولو شاء ربّك لجعل الناس أُمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين }(2).
وهكذا نلاحَظ، أن الغاية من اختلاف الناس إلى شعوب وقبائل وتنوعهم إلى ثقافات ومَدَنيات إنما هو التعارف لا التَّناكر، والتعايش لا الاقتِتَال، والتعاون لا التَّطاحن، والتكامل لا التعارض، وبات واضحاً أن أهمية التسامح الديني تتمثّل في كونه ضرورياً ضرورة الوجود نفسه.

2) قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه يقتضي الاحترام المتبادل:
مما تقدّم، نتبيّن أن قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه يُقرّ الاختلاف ويقبل التنوّع ويعترف بالتغاير ويحترم ما يميز الأفراد من معطيات نفسية ووجدانية وعقلية ، ويقدر ما يختص به كل شعب من مكونات ثقافية امتزج فيها قديم ماضيه بجديد حاضره ورؤية مستقبله، هي سبب وجوده وسرّ بقائه وعنوان هويته ومَبعث اعتزازه.

3) قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه يقتضي المساواة في الحقوق:
من الواضح أن قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه يقتضي التسليم المطلق – إعتقاداً وسلوكاً وممارسة – بأنه إذا كان لهؤلاء وجود فلأولئك وجود، وإذا كان لهؤلاء دين له حُرمته فلأولئك دين له الحُرمة نفسها، وإذا كان لهؤلاء خُصوصية ثقافية لا ترضى الانتهاك فلأولئك خُصوصية ثقافية لا تقبل الـمَسّ أبداً.

4) قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه إرهاصاً لإقامة مجتمع مَدني:
من الجَلِي أن التسامح الديني يُعدّ أرضية أساسية لبناء المجتمع المدني وإرساء قواعده، فالتعدّدية والديموقراطية وحرية المعتقد وقبول الاختلاف في الرأي والفكر وثقافة الإنسان وتقدير المواثيق الوطنية واحترام سيادة القانون، خيارات استراتيجية وقيم إنسانية ناجزة لا تقبل التراجع ولا التفريط ولا المساومة، فالتسامح – إذن – عامل فاعل في بناء المجتمع المدني، ومشجّع على تفعيل قواعده.
وهكذا، نستخلص أن التسامح يستوجب الاحترام المتبادل، ويستلزم التقدير المشترك، ويدعو إلى أن تتعارف الشعوب لتتقارب، ويفرض التعامل في نطاق الدائرة الموضوعية من دون المسَاس بدائرة الخصوصية من غير إثارة لحساسيتها، وانتهاك لحُرمة ذاتيتها، وهي دائرة تبادل المعارف والمنافع والمصالح المشتركة الفاعلة التي يعود مردودها بالخير على الجميع.

ثانياً: موقف الأديان من التسامح الديني


من البديهي أن الأديان بحكم إنتمائها إلى السماء، فإنها لا تأمر إلاّ بالخير والحق والصلاح ولا تدعو إلاّ بالبِرّ والحب والرحمة والإحسان، ولا توصي إلاّ بالأمن والسلم والسلام، وما كانت يوماً في حدِّ ذاتها عائقاً أمام التبادل الفكري والثقافي ولا أمام التعايش والتعارف والحوار، وإنما العائق يكمن في الذين يتوهّمون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة ويستغلّون الأديان في أقدار الناس ومصائرهم، تلك المهمة التي أبَى الله تعالى أن يمنحها لأنبيائه الأخيار.

1) التسامح في نظر الإسلام:

إن الإسلام من جهته يعترف بوجود الغير المخالف فرداً كان أو جماعة ويعترف بشرعية ما لهذا الغير من وجهة نظر ذاتية في الاعتقاد والتصوّر والممارسة تخالف ما يرتـئيه شكلاً ومضموناً. ويكفي أن نعلم أن القرآن الكريم قد سمّى الشِّرك ديناً على الرغم من وضوح بطلانه، لا لشيء إلاّ لأنه في وجدان معتنقيه دين (3).
ومن هنا، فإن جريمة المشركين لم تكن في إعراضهم عن الإسلام، وإنما في كونهم رفضوا أن يعيش دين جديد بجوار دينهم، فقرّروا مَحْقَه واستئصاله من الوجود.
هذا وقد أوصَل بعضهم الآيات الواردة في شأن احترام الأديان الأخرى واحترام خصوصيتها واتباعها إلى أكثر من مائة آية موزّعة في ست وثلاثين سورة.
ولم يكتف القرآن بتشريع حرية التديّن، بل نجده قد وضع جملة من الآداب، فقد دعا المسلمين إلى أن يكونوا لغيرهم موضع حفاوة ومودّة وبِر وإحسان. قال تعالى: { لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يُقاتلُوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبرُّهم وتُقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين }(4).
وإتساقاً مع تلك الدعوة إلى حُسن التعامل، نرى القرآن يحذّر أتباعه ويَنهاهم عن سَبّ المشركين وشتم عقائدهم، { ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عَدْواً بغير علم }(5). يشير مضمون الآية إلى كونها تلقين مستمر المدى حيث أوجب الله تعالى في كل زمان ومكان الالتزام بهذا الأدب وعدم شتم غيرهم وعقائدهم (6).
والواقع أن المرء إذا نظر إلى تلك المبادئ المتعلقة بموضوع حرية التديّن التي أَقَرَّها القرآن بموضوعية، لا يسعه إلاّ الاعتراف بأنها فعلاً مبادئ التسامح الديني في أعمق معانيه وأروع صوره وأبعد قِيمه.

التسامح في نظر المسيحية:

والصحيح أن الإسلام لم يكن وحده في اشتماله على مبادئ التسامح، فالمسيحية التي تقول أناجيلها..
• لقد قيل لكم من قبل أن السنّ بالسنّ والأنف بالأنف، وأنا أقول لكم: لا تقاوموا الشرّ بالشرّ بل من ضرب خدّك الأيمن فحوّل إليه الخد الأيسر ومن أخذ رداءك فأعطه ازارك ومن سخّرك لتسير معه ميلاً فسر معه ميلين (7).
• من استغفر لمن ظلمه فقد هزم الشيطان (8).
• عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنّوا إليكم وإن متّم بكوا عليكم (9).
هي بدورها تتضمّن مبادئ التسامح في أَجْلى صوره، بل إنه تسامح يبدوا أحياناً فوق الطاقة.

التسامح في نظر اليهودية

أن اليهودية تدعو إلى التسامح أيضا فلننظر إلى مثل هذه الوصايا..
• كل ما تكرهُ أن يفعلهُ غيرك بك فإياك أن تفعلهُ أنت بغيرك (10).
• اغتسلوا وتطهّروا وأزيلوا شرَّ أفكاركم (…) وكفّوا عن الإساءة. تعلّموا الإحسان والتمسوا الإنصاف (11) .

الاستنتاج عن التسامح

وهكذا بات واضحاً أن التسامح الديني مطلب إنساني نبيل دَعَت إليه الأديان كافة دون استثناء، وكيف لا تدعو إليه وقد أرادته الحكمة الإلهية واقتضته الفِطرة الإنسانية واستوجبته النشأة الاجتماعية وفرضته المجتمعات المدنية وتُحتّمه ثقافة العولمة وما تحتاج إليه من قِيَم حضارية ومَدنية نبيلة. والمهم أيضاً، أن الإشكال ليس في الأديان ذاتها وإنما هو كامن في عُقم إفهام بعض القائمين عليها ولا زالت المفارقات بين المبادئ والممارسات الواقعة هنا وهناك لا تُحصى. إن التسامح الديني يتطلّب الاحترام المتبادل ويقتضي التخلّي عن الأساليب الإقصَائية.إن الأقوال من قبيل.. الحروب المقدسة والحروب الصليبية، نحن وحدنا على طريق الحق والخير، وغيرنا شرير وفاسد، كافر، ملحد، لائكي، عَلماني.. وغيرها، لغة لا يستسيغها التعامل المدني المعاصر، ومع ذلك قد استعملت حتى من قِبَل البعض اللذين نعدّهم حضاريين. إن التعددية والاختلاف ليست مَدعاة لليأس والاحباط بقدر ما هي حافز قوي يدعو قوى الخير في العالم إلى تفعيل قواعد المجتمع المدني حتى يكون لها موقع من العولمة ثابتاً ومَكيناً. ثم إن العولمة لا تكون إرهاصاً لمستقبل أكثر اطمئناناً وأشد تضامناً إلاّ ببلورة القيم الكونية وتفعيلها واتخاذها المُنطلق المرجع. ولا يتيسّر هذا إلاّ بتضامن مبادئ الأديان النبيلة، وتعاون جهود الثقافات الواعية القادرة على خلق فكر حضاري يتوارى – أمامه مذموماً، مدحوراً – كل خطاب يُشوّه المقدّس، ويغتال العقل ويُصادر الحرية ويجذب إلى الخلف ويتنكّر للحداثة ويحاول عبثاً أن يلفت التاريخ إلى الوراء. إن الحرص على خلق عالم جديد خال من حقد العنصرية العرقية، وبغضاء التطاحن الديني هدف كوني نبيل يتطلّب مبادرات جادة وفاعلة.يبقى أن القِيم الكونية تحتاج إلى تضامن نضال دؤوب، وبرغم ما يُعيقه من صراع كريه تطفح تداعياته البشعة على سطح الساحة العالمية، فإنه ليس بعزيز ولا مستحيل على المؤسسات التربوية والثقافية والعلمية والجمعيات الحكومية وغير الحكومية في العالم إذا تَاَنْسَنَت أهدافها واتّفقت منطلقاتها وتكاتفت جهودها.
وللمزيد زوروا موقعنا “لحظات”

التالي
تفسير حلم رؤية الذرة فى المنام لابن سيرين والامام الصادق
السابق
الطواف حول الكعبة المشرفة – مسافة الطواف حول الكعبة المشرفة